فصل: الخبر عن انتقاض ابن الأحمر واستيلاء الرئيس سعيد على سبتة وخروج عثمان بن العلاء في غمارة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الخبر عن مراسلة ملوك المشرق الأقصى ومهاداتهم ووقادة أمراء الترك على السلطان وما تخلل ذلك:

لما استولى السلطان على المغرب الأوسط بممالكه وأعماله وهنأته ملوك الأقطار وأعراب الضواحي والقفار وصلحت السابلة ومشت الرفاق إلى الآفاق واستجد أهل المغرب عزما في قضاء فرضهم ورغبوا من السلطان إذنه لركب الحاج في السفر إلى مكة فقد كان عهدهم بمثلها الفساد السابلة واستهجان الدول فبينما السلطان في ذلك آمل اذ داخله لحرم الله وروضة نبيه صلى الله عليه وسلم شوق فأمر بانتساخ مصحف رائق الصنعة كتبه ونمقه أحمد بن الحسن الكاتب المحسن واستوسع في جرمه وعمل غشاءه من بديع الصنعة واستكثر فيه من معالق الذهب المنظم بخرزات الدر والياقوت وجعلت منها حصاة وسط المعلق تفوق الحصيات مقدارا وشكلا وحسنا واستكثر من الأصونة عليه ووقفه على الحرم الشريف وبعث به مع الحاج سنة ثلاث وسبعمائة وعني بشأن هذا الركب فسرح معهم حامية من زناتة تناهز خمسمائة من الأبطال وقلد القضاء عليهم محمد بن رغبوش من أعلام أهل المغرب وخاطب صاحب الديار المصرية واستوصاه بحاج المغرب من أهل مملكته وأتحفه بهدية من طرف بلاده استكثر فيها من الخيل العراب والمطايا الفارهة يقال إن المطايا كانت منها أربعمائة حدثني بذلك من لقيته إلى ما يناسب ذلك من طرف المغرب وما عونه ونهج بها السبيل للحاج من أهل المغرب فأجمعوا الحج سنة أربع وسبعمائة بعدها وعقد السلطان على دلالتهم لأبي زيد الغفاري وفصلوا من تلمسان لشهر ربيع الأول.
وفي شهر ربيع الآخر بعده كان مقدم الحاج الأولين حملة المصحف ووفد معهم على السلطان الشريف لبيدة بن أبي نمي نازعا عن سلطان الترك لما كان تقبض على أخويه حميضة ورميثة اثر مهلك أبيهم أبي نمي صاحب مكة سنة إحدى وسبعمائة فاستبلغ السلطان في تكريمه وسرحه إلى المغرب ليجول في أقطاره ويطوف على معالم الملك وقصوره وأوعز إلى العمال بتكريمه وإتحافه على شاكلته ورجع إلى حضرة السلطان سنة خمس وسبعمائة وفصل منها إلى المشرق وصحبه من أعلام المغرب أبو عبد الله موري حاجا ولشعبان من سنة خمس وسبعمائة وصل أبو زيد الغفاري دليل ركب الحاج الآخرين ومعه بيعة الشرفاء أهل مكة للسلطان لما أسفهم صاحب مصر بالقبض على إخوانهم وكان شأنهم ذلك متى غاظهم السلطان فقد سبق في أخبار المستنصر بن أبي حفص مثلها وأهدوا إلى السلطان ثوبا من كسوة البيت شغف به واتخذ منه ثوبا للباسه في الجمع والأعياد يستبطنه بين ثيابه تبركا به ولما وصلت هدية السلطان إلى صاحب مصر لعهده الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي حسن موقعها لديه وذهب إلى المكافأة فجمع من طرف بلاده من الثياب والحيوان ما يستغرب جنسه وشكله من نوع الفيل والزرافة وأوفد بها من عظماء دولته الأمير اليليلي وفصل من القاهرة أخريات سنة خمس وسبعمائة ووصلت إلى تونس في ربيع من سنة ست وسبعمائة بعدها ثم كان وصولها إلى سدة السلطان بالمنصورة من البلد الجديد في جمادى الآخرة واهتز السلطان لقدومها وأركب الناس إلى لقائها واحتفل للقاء هذا الأمير اليليلي ومن معه من أمراء الترك وبر وفادتهم واستبلغ في تكريمهم نزلا وقرى وبعثهم إلى المغرب على العادة في مبرة أمثالهم وهلك السلطان خلال ذلك وتقبل أبو ثابت سنة من بعده في تكريمهم فأحسن منقلبهم وملاء حقائبهم صلة وفصلوا من المغرب لذي الحجة سنة سبع وسبعمائة ولما انهوا إلى بلاد بني حسن في ربيع من سنة ثمان وسبعمائة اعترضهم الأعراب بالقفر فانتهبوهم وخلصوا إلى مصر بجريعة الزمن ثم يعاودوا بعدها إلى المغرب سفرا ولا لفتوا إليه وجها وطالما أوفد عليهم ملوك المغرب بعدها من رجال دولتهم من يؤبه له ويهادونهم ويكافئون ولا يزيدون في ذلك كله على الخطاب شيئا وكان الناس لعهدهم ذلك يتهمون أن الذين نهبوهم أعراب حصين بدسيسة من صاحب تلمسان أبي حمو لعهدهم منافسة لصاحب المغرب لما بينهم من العداوات والأحن القديمة.
أخبرني شيخنا محمد بن إبراهيم الأبلي قال: ضرت بين يدي السلطان وقد وصله بعض الحاج من أهل بلده مستصحبا كتاب الملك الناصر بالعتاب عن شأن هؤلاء الأمراء وما أصابهم في طريقهم من بلاده وأهدى له مع ذلك كوبين من دهن البلسان المختص ببلدهم وخمسة مماليك من الترك رماة بخمسة أقواس من قسي الغز المؤنقة الصنعة من العرى والعقب فاستقل السلطان هديته تلك بالنسبة إلى ما أهدوا إلى ملك المغرب ثم استدعى القاضي محمد بن هدية وكان يكتب عنه فقال له: اكتب الآن إلى الملك الناصر كما أقول لك ولا تحرف كلمة عن موضعها إلا ما تقتضيه صناعة الإعراب وقل له: أما عتابك عن شأن الرسل وما أصابهم في طريقهم فقد حضروا عندي وأبنت لهم الاستعجال حذرا مما أصابهم وأريتهم مخاوف بلادنا وما فيها من غوائل الأعراب فكان جوابهم أنا جئنا من عند ملك المغرب فكيف نخاف مغترين بشأنهم يحسبون أن أمره نافذ في أعراب قلاتنا وأما الهدية فترد عليك أما دهن البلسان فنحن قوم بادية لا نعرف إلا الزيت وحسبنا به دهنا وإما المماليك الرماة فقد افتتحنا بهم إشبيلية وصرفناهم إليك لتستفتح بهم بغداد والسلام قال لي شيخنا وكان الناس إذ ذاك لا يشكون أن انتهابهم كان بإذن منه وكان هذا الكتاب دليلا على ما في نفسه وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون.

.الخبر عن انتقاض ابن الأحمر واستيلاء الرئيس سعيد على سبتة وخروج عثمان بن العلاء في غمارة:

لما أحكم السلطان عقد المهادنة والولاية مع السلطان ابن الأحمر المعروف بالفقيه عند إجازته إليه بطنجة سنة اثنتين وتسعين وستمائة كما ذكرناه وفرغ لعدوه تمسك ابن الأحمر بولايته تلك إلى أن هلك سنة إحدى وسبعمائة في شهر شعبان منه وقام بالأمر الأندلسي من بعده ابنه محمد المعروف بالمخلوع واستبد عليه كاتبه أبو عبد الله بن الحكيم من مشايخ رندة كان اصطفاه لكتابته أيام أبيه فاضطلع بأموره وغلب عليه وكان هذا السلطان المخلوع ضرير البصر ويقال إنه ابن الحكيم فغلب عليه واستبد إلى أن قتلهما أخوه أبو الجيوش نصر سنة ثمان وسبعمائة كما نذكره وكان من أول آرائه عند استيلائه على الأمر من بعد أبيه المبادرة إلى إحكام ولاية السلطان واتصال يده بيده فأوفد إليه لحين ولايته وزير أبيه السلطان أبي عزيز الداني ووزيره الكاتب أبا عبد الله بن الحكيم فوصلا إلى السلطان بمعسكره من حصار تلمسان وتلقاهما بالقبول والمبرة وجددت له أحكام الود والولاية وانقلبا إلى مرسلهما خير منقلب وتقدم السلطان إليهم في المدد برجل الأندلس وناشبتهم المعودين منازلة الحصون والمناغرة بالرباط فتبادروا إلى إسعافه وبعثوا حصتهم لحين مرجعهم إلى سلطانهم فوصلت سنة اثنتين وسبعمائة وكانت لهم نكاية في العدو وأثر البلد المخروب ثم بدا لمحمد بن الأحمر المخلوع في ولاية السلطان لمنافسات جرت إلى ذلك وبعث إلى أدفونش هراندة بن شانجه وأحكم له عقد السلم ولاطفة في الولاية فانعقد ذلك بينهما سنة ثلاث وسبعمائة واتصل خبره بالسلطان فسخطه ورجع إليهم حصتهم آخر سنة ثلاث وسبعمائة واتصل خبره بالسلطان لسنة من مقدمهم بعد أن أبلوا وأثخنوا وطوى لهم على النث واعتمل ابن الأحمر وشيعته في الاستعداد لمدافعة السلطان والارصاد لسطوته بهم وأوعز إلى صاحب مالقة ابن عمه الرئيس أبي سعيد فرج بن إسمعيل بن محمد بن نصر وليه من دون القرابة بما كان له من الصهر على أخته والمضطلع له بثغر الغربية فأوعز إليه بمداخلة أهل سبتة في خلع طاعة السلطان والقبض على ابن العزفي والرجوع إلى ولاية ابن الأحمر وكان أهل سبتة منذ هلك إبراهيم الفقية أبو القاسم العزفي سنة سبع وسبعين وستمائة قام بأمرهم ولده أبو حاتم وكان أبو طالب رديفا له في الأمر إلا أنه استبد عليه بصاغيته إلى الرياسة وايثار أبي حاتم للخمول مع إيحابه حق أخيه الأكبر وأجابته الداعي من دون دفع إليه فاستقام أمرهما مدة وكان من سياستهما من أول أمرهما الأخذ بدعوة السلطان فيما لنظرهما والعمل بطاعته والتجافي عن السكني بقصور الملك والتحرج من أبهة السلطان لمكانهم فأنزلوا بالقصبة عبد الله بن مخلص قائدا من البيوتات اصطنعوه وجعلوا إليه أحكام البلد وضبط الحامية له فاضطلع بذلك سنين ثم اسفه يحيى بن أبي طالب ببعض النزعات الرياسية وحجر عليه الأحكام في ذويه ثم أعزى به أباه وطالبه بحساب الخرج لعطاء الحامية وغفلوا عما وراءها من التظنن فيه والريبة به ثقة بمكانه واستنامة إليه وهم مع ذلك على أولهم في موالاة السلطان والأخذ بدعوته والوفود عليه في أوقاته ولما فسدت ولاية ابن الأحمر للسلطان وعقد على محاولة سبتة وجد السبيل إلى ذلك بما طوى صاحب الأحكام بالقصبة على النث فداخله الرئيس أبو سعيد صاحب الثغر بمالقة جاره بسبتة ووعده الغدر ببني العزفي وأن يصحبهم في أساطيله فشرع الرئيس أبو سعيد في إنشاء الأساطيل البحرية واستنفار الناس للمثاغرة وأن العدو لمالقة بالمرصاد وشحنها بالفرسان والرجل والناشبة والأقوات وأخفى وجه قصده عن الناس حتى إذا قلعت أساطيله بيت سبتة لسبع وعشرين من سؤال سنة خمس وسبعمائة وأرسى بساحتها الموعد صاحب القصبة فأدخله إلى حصنه فملكه ونشر راياته بأسوارها وسرب جيوشه إلى البلد فتسايلوا وركب إلى دور بني العزفي فتقبض عليهم وعلى والدهم وحاشيتهم وطير الخبر إلى السلطان بغرناطة فوصل الوزير أبو عبد الله بن الحكيم ونادى في الناس بالأمان وبسط المعدلة وأركب ابن العزفى السفن إلى مالقة ثم أجازوا غرناطة وقدموا على ابن الأحمر فأجل قدومهم وأركب الناس إلى لقائهم وجلس لهم جلوسا فخما حتى أدوا بيعتهم وقضوا وفادتهم وأنزلوا بالقصور وأجريت عليهم سنية الأرزاق واستقروا بالأندلس إلى أن صاروا بعد إلى المغرب كما نذكر واستبد الرئيس أبو سعيد بأمر سبته وثقف أطرافها وسد ثغورها وأقام دعوة ابن عمه صاحب الأندلس بأنحائها وكان عثمان بن أبي العلاء بن عبد الله بن عبد الحق من أعياص الملك المريني أجاز معه البحر إليها أميرا على الغزاة بمالقة وقائدا لعصبتهم تحت لوائه فموه بنصبه للملك بالمغرب وخاطب قبائل غمارة في ذلك فوقفوا بين الإقدام والإحجام واتصل ذلك كله بالسلطان وهو بمعسكره من حصار تلمسان فاستشاط لها غيظا وحمي أنفه نفرة واستنفره الصريخ فبعث ابنه الأمير أبا سالم لسد تلك الفرجة وجمع إليه العساكر وتقدم إليه باحتشاد قبائل الريف وبلاد تازى فأغذ السير إليها وأحاطت عساكره بها فحاصرها مدة ثم بيته عثمان بن أبي العلاء فاختل معسكره وأفرج عنها منهزما فسخطه السلطان وذوى عنه وجه رضاه وسار عثمان بن أبي العلاء في نواحي سبتة وبلاد غمارة وتغلب على تكيساس وانتهى إلى قصر ابن عبد الكريم في آخر سنة ست وسبعمائة لسنة من استيلائهم على سبتة مقيما رسم السلطان مناديا بالدعاء لنفسه فاعتزم السلطان على النهوض إليه من أمر تلمسان لما كانت على شفا هلكة ومحابينة انفضاض لولا عوائق الأقدار بمهلكه كما نذكره إن شاه الله تعالى.